بين فترة و أخرى سأطل عليكم بقصص واقعية سمعتها و عايشتها مع مربين أمثالكم، والحكمة من وراء سرد القصة أولا حتى يعرف القارئ أنه ليس وحيدا في مشكلته مع أسرته، وحتى أقدم نماذجا قد تساعد المربين على فهم أو تفادي ما يدور في بيوتهم. و أترككم اليوم مع عائشة و ابنها حميد.
تخرجت عائشة بامتياز و تعمل حاليا مدرسة تربية إسلامية في مدرسة حكومية. منذ الصغر عرفت عائشة بالهدوء و الرصانة و الحكمة و التدين. كانت عائشة تحب الأطفال و تتمنى أن ترزق دائما بطفل تسميه محمد أو أي اسم يحمل معنى الحمد. و بعد أن تم المراد و مضت سنة كاملة على الزواج، رزقت عائشة ب" حميد". بارك الجميع لعائشة و توقع لأسرتها أن تكون مثالية كعائشة، فهي طباخة ماهرة، مدبرة منزل بارعة، وهاهي أم تقرأ جميع أنواع كتب التربية وعلم النفس حتى ينشأ "حميد" نشأة تربوية نفسية سعيدة. عندما تفخر النساء أن أبناءهم يتحدثون اللغات الأجنبية كانت تعاتبهم وتقول لهم بأن حميد هو فراهيدي زمانه. و عندما كان أخوها يفخر بابنه الذي حفظ سورة الحمد وهو في الخامسة ردت عليه بأن حميد سيحفظ جزء عم كاملا في هذا العمر. كانت تنتقد أختها التي تجلس ابنتها أمام التلفاز وكانت تتحداها بأن حميد لن يشاهد إلا البرامج الثقافية. كانت عائشة تؤمن أشد الإيمان بأن الطفل من صنع والديه وأنه صفحة بيضاء يكتب عليه الأبوان ما يريدان. مضت الأيام و بدأت أولى خطوات حميد و كلماته تتضحان. أول ما تعلمه هو الركض وأرجعت الأمر إلى "عبقرية" مبكرة في ولدها. بدأ حميد يكتشف العالم فكان يحب تمزيق كتبها و كراسات طالباتها، مغرم بسكب القهوة الحارة عليه و بشرب الشاي بحليب، يحب إدخال الشوكة و بذور الرمان في فتحات الكهرباء، يترك حنفية المغطس مفتوحة حتى تغرق أرضية الحمام، و يحب فتح أدراج أمه و نثر محتوياتها في مجلس الرجال. كانت تعلل شقاوة حميد البريئة على أنها استكشافات ستنتهي عندما يبلغ ثلاثة أعوام، و كبر حميد و ارتفع صوته بالصياح في المنزل، و ازداد نشاطه، فكان يرفض مبدأ الجلوس في مكان واحد للطعام، وكانت جدران المنزل تشهد بإبداعاته و رسوماته، وكانت سجادة بيت حميد تشهد بشربها أنواع مختلفة من العصائر، وكانت بقايا ألعاب حميد الثقافية الغالية تقبع في ركن غرفته تنتظر من يلم شملها بعد أن رماها حميد من الطابق الثاني. و بحدس عائشة قالت يجب أن يتعلم حميد طبع الرجال و مخالطة الكبار حتى يتطبع بهم. أخذت عائشة تلح على زوجها أن يصطحب حميد معه في المجلس و المسجد و لكن و بعد وقت قليل أعاده أبوه إلى حضن أمه بعد أن رمى بمفاتيح إمام المسجد في صندوق التبرعات، و أخذ يصيح بكلمة "آمين" بعد أن ينتهي الإمام من قراءة الفاتحة، و يمشي أمام المصلين و يحدق فيهم. ولم يسلم بيت صديق والده كذلك من شقاوة حميد. في مجلس الأمهات كانت تشتكي منه مدرسة التربية الإٍسلامية أنه سيء الحفظ و يحب إضحاك الطلاب في الفصل. جن جنون عائشة و تمنت أن لا تعرف مدرسته بأنها مدرسة مثلها. تغيرت توجهات عائشة التربوية كلما كبر حميد، فأصبحت تقرأ الآن كيف تعالج سرقة الأبناء و كيف تتخلص من كذبهم و كيف تعودهم على الاحترام إلى غيرها من كتب "التهذيب". عندما تكون عائشة مع حميد تنسى جميع النظريات التربوية و لا تتذكر إلأ نظرية تقول بأن الطفل كائن شرير يحتاج إلى تهذيب! كانت عائشة تبكي كثيرا عندما تعود من منزل أهلها و قد اشتكى الجميع من شقاوة حميد. كانت تفكر كثيرا ما الخطأ الذي ارتكبته ليكون حميد "شريرا" صغيرا. قررت عائشة فجأة تغيير المدرسة إلى مدرسة تقدم أنواعا متطورة من أساليب التربية الحديثة. و كعادة عائشة رتبت شكل حميد و راجعت معه جميع الحروف العربية و الأجنبية و السور القصيرة التي لا يتقنها قبل أن يتقدم للاختبار. بعد الاختبار، رجعت المديرة لتقول لعائشة بأن حميد لا يتكلم بصورة جيدة و لايعرف الكثير من المفردات. تعجبت عائشة فهي و أن كان ابنها شقيا ولكنه يتحدث مع الجميع كثيرا دون صمت و يعرف الشاردة و الواردة ولكنها لم ترد أن تقوم كعادتها بدور المحام عن ابنها هذه المرة. وبعد أن ركبت السيارة سألت حميد عن الاختبار فقال لها بنبرة طفولية: " لا ماما، أنا ما كنت أجاوب، أنا كنت funny، و كنت أسوي حق التيتشر silly faces"! أدركت عائشة أنها مهما فعلت فحميد سيظل طفلا بريئا و برعما أخضرا و لكنها كانت تستعجله و تريده أن ينضج قبل أوانه، فكان يحاول بدوره التفلت منها و التملص من ضغطها. فهمت عائشة درسها بأن ابنها يريد أما و ليس مدرسة. و علمت أنها مهما حاولت حشو الطفل بالأخلاقيات و السلوكيات و السور بأن حميد سيستوعب كل ذلك عندما يكون هو جاهزا لها و ليس عندما تريد هي. تحاول عائشة الآن أن تفهم بأن تصرفات حميد حتى و إن لم تحبها فهي لا تنتقص منها شيئا و يجب أن لا تأخذ تصرفاته على أنها انتقاد لها شخصيا. بدأت عائشة تنظر إلى إيجابيات حميد بدلا من التركيز على تصحيح أخطائه. تغيرت عائشة فقل الضغط على حميد و أصبح توجيهه أسهل من ذي قبل. عائشة الجديدة ملأت الجدران أوراقا حتى " يشخبط" حميد براحته، أشترت له ألعابا تستهويه هو بدلا من ألعابها السابقة، و نسيت كتبها و نظرياتها و تنافسها مع الآخرين، و عقدت هدنة مع نفسها و مع حميد. فأطفالنا و إن كانوا جزءا منا ولكنهم أشخاص مستقلون ، و مهما حاولنا تشكيلهم لن نستطيع إلا بمقدار، فلنترك أبناءنا ليكونوا أنفسهم بتوجيهنا و حبنا ورعايتنا بدلا من أن نطالبهم أن يكونوا انعكاسا منا و لنا.
عدل سابقا من قبل nabil في الخميس 6 مارس - 6:51:15 عدل 1 مرات
عدد الرسائل : 411 العمر : 31 الموقع : morroco العمل/الترفيه : التايكواندو و الطبخ المزاج : هادئة الأوسمة : الدولة : رقم العضوية : 06 تاريخ التسجيل : 01/02/2008
عدد الرسائل : 619 العمر : 30 الموقع : maroc العمل/الترفيه : التايكواندو و الإستماع إلى الموسيقى المزاج : مرحة الدولة : رقم العضوية : 07 تاريخ التسجيل : 04/02/2008